حـــوارٌ بـيــني وأنــــَا

لا شيء يستحق شيئًا بهذه الدنيا..

لا شيء بها كبيرٌ أو عظيم.. غير الغرور والاغترار بها.. عندها
قد تصبح العظمة أذًى والكبر هلاكًا.. لا العكس..

لستُ أراني متشائمة، ولا كنتُها يومًا.. ولم أعد أراني
متفائلةً أيضًا.. لربما أن الحوادث المختلفة التي نقابلها بالحياة،
تـُغيـِّر من وجهاتنا الكثير، وتملأ أمخاخنا ببعضٍ من الأفكار، وتسكبُ في
أرواحنا بعضًا من الاقتناعات ما كنَّا يومًا لنفكر بها، أو نضـُمَّها
لاقتناعاتنا ومُمتلكاتنا المعنويَّة..

هاهو كل شيء مُضيء حولي، تتسللُ الشمس بين منافذ الجسَد
والرُّوح، تُحاول أن تسخِّن بعضًا من زوايَا تظنُّها باردة.. تعـْبثُ ببعضٍ
من الكدر تُحاول أن تجعله يبتسم من القلب.. يفعلها مرَّة.. ويُجامل يديها
الحانيتين أغلب المرَّات..

ملامح الحياة ذاتها تُرافق موقع قدماي، ومحط أنظاري، وبعضًا
من الكُتب المرتمية في أطراف محل وجودي.. وكثيرًا من الألسن التي تُحسن
الكلام.. كل ذلك يختصرُ بعض الحروف المُحتاجَة..

هذا إن احـْتيجتْ ! فقد أضحى بالعقل مكانٌ فسيحٌ، وملاذٌ
لاستلهام فيضٍ من كلامٍ وتفكيرٍ، وتدويرٍ للحروف..

إلى جانب كل ذلك، كثيرٌ من تشتت يملأ الروح التي تقابل كل
هـذا وذاك..

أيعبثُ بي الوقت الذي يمضي يلهيني عمَّا هو أعظم؟ أم أنا التي
تعبث به تُنسيه الدقات وتـَتابُع الثواني والدقائق والسَّاعات؟.. لستُ
أدري يا أنا.. غير أن الذي أعرفه أنني ما وددتُ يومًا أن أطأ مثل هذه الأرض
الواقعية المُريبة، وأنا في مثل هذه المرحلة العمرية، التي أبعدتني عن
لحظات الصبا وبراءة الطفولة.. هذه الأرض التي تجعل الخطوات أكثر اهتزازًا
لا ثباتًا.. وتجعل اليقين مجرَّد حلمٍ عابرٍ، لا يأتي إلا مرَّة واحدةً
طيلة العمُر.. هذا إن أتى!

أحاول جاهدةً أن أرى الواقع بالوضوح الذي يجب أن يكونه، فلا
أرى منه غير التشتت لا الثبات، ولا ألحظ منه غير المسرحيات لا الوقائع
الحقيقية، ولا أشم منه غير العطور الكيميائية لا الطبيعية.. لا شيء صافٍ..
أو نقيٍ أو طبيعيٍ محضٍ.. كله مُزيف، مُنمق، مُزخرف..

وهذا العالم من حولي جله يلبسُ أزياء التمثيل..
يُتقنها الدهر كله، ليأتي موقفٌ بالحياة فجأة،
يبدد الزيف ذاك، لتكتشفه نفسي المتعودة على مثل ذاك.. ما عادت الألوان
ذاتها، ولا الأسماء ذاتها، ولا المواقف والحوادث حقةً.. كلها أشباه الأشياء
لا مصدرها، وشكلها المزيف لا الحقيقي.. ما عاد يملأ أرواح الشخوص سوى
التمثيل، وما عاد يُلبَسُ من الكون سوى أزياء مؤقتة، حتى الحروف التي تخرج
من الأفواه صارت حينية ظرفية تتغير بين الليلة وضحاها..

لا تقنطي من كيفية تحليلي للوقائع يا أنا.. وتأكدي أنني لستُ
بالمتشائمة أبدًا.. ولكنني أظنني أرى الأمور بعفويةٍ أكبر، وأحاولُ بجديةٍ
الابتعاد قدر الإمكان عن الزيف الذي يتلبسُ في زي الخيال، أو التطلع.. الذي
لن يُجدي في شيء.. لم يعد يُجدي أن نـُلبِس غيرنا ما لا يُناسبهم، ولا أن
نأمل بما تنطقه أفواههم، وما يلفهم من حوادث، وما يميز ملامحهم كثيرًا من
يقين..

أضحى كل شيء متغيرًا بلمح البصر، ولم يعد للثبات مكانٌ في
عالمٍ مُريب.. ولم تعُد للثقة مكانٌ بين أفئدة الكون..

حملتُ بعضًا من وقائع مُكتسبة علمتني إياها السنون، ومضيتُ
بدربٍ خالٍ منهم.. أستشعـرُ الكون بطريقتي الخاصة.. أحاول أن لا يلمس
السَّلب طريقي، ولا أن يبدّدها.. فلم أفلح.. وضِعتُ وسط زحام الشتات..
والتغير.. واللاثبات..

وأنا في دروبي الخاصَّة.. واقتناعاتي التي تحمل بصماتي..
وكثيرًا مني الذي يمثل لي الكون جله.. ورغم الذي يحصل وسيحصل.. سأحاول من
كل قلبي أن أشكر فلتات الزمان، وصفعات الأيّام.. وكثيرًا من شخوصٍ كانت لهم
أدوارٌ مميزةٌ بالحياة، نالوا فيها لقب البطولة، وأسقوني من العقل والتدبر
ما ألفتُ بعده اللاذوق لكل شيء يحوم من حولي.. صدقًا ما عاد هنالك ذوقٌ
لأي ذوقٍ...

وسأحاول.. سأحاول يا أنا.. أن أمضي بنفس السُّبل لأنها ما
نملك وما سيُسَطرها لنا الزمان، لكني سأحاول أيضًا أن لا أنسى الذي مضى من
قهر اللحظات الفائتة، وسأطعم قلبي كميةً من الصفح، والصفو، حتى يتقوى ويجد
له مكانًا بين الأفئدة الكثيرة في هذا العالم الجاحد الكبير..

عذرًا يا أنا إن كنتِ تظنيني يومًا قد كبرتُ، وعقلتُ، وفقهتُ،
واعتليتُ درجاتٍ علا.. إذ لازلتُ أتعلم.. ولازلتُ أذوق طعم الحياة بكامل
أذواقها.. إذ يبدو أن لها من الأذواق الكثير..

وبين طعمها المرّ والحلو والمالح والحامض، سأحاول أن أجد لي
ما يـُشبعني.. ولن أموت جوعًا في هذا العالم الجاحد.. لـن أمـُوت!

عدد المساهمات : 17 تاريخ التسجيل : 19/07/2013

موضوع جد رااااائع بارك الله فيك